نكمل هنا الجزء الثالث من سلسلة تدوينات سبع أدلة على مشروعية الاحتفال بمولده صلى الله عليه و سلم، و كنا في التدوينة الأولى أوضحنا ثلاث أدلة (يمكنك قراءة الجزء الأول هنا)، فمولده صلى الله عليه و سلم هو تذكير بأيام الله، وشكر على النعمة، و فرحٌ و سرورٌ بفضل الله علينا إذ بعثه صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين. ثم أضفنا في التدوينة الثانية أربع أدلة أخرى (يمكنك قراءة الجزء الثاني هنا) ، فمولده صلى الله عليه و سلم تبركٌ بمكان و زمان ميلاده، وقد احتفل به عند عودته من الغزو في حال حياته صلى الله عليه و سلم، كما أن الله أظهر يوم مولده عن غيره من العرب، و هي نعمة من الله على الأمة الإسلامية تستحق الشكر، ثم أنها من السنن الحسنة التي عليها إجماع أئمة العلم.
و لكن بعض الناس يشوشون على المسلمين صَفوَ احتفالهم بمولد رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم بِحُجة أن هذا الأمر بدعة ابتدعها الشيعة الفاطميون، وأن الخير كله فى عصر الصحابة وهم لم يصنعوا احتفالاً فى هذا اليوم، و لذلك أفردنا هذا الجزء للرد على بعض ما اُختلِط عليهم.
أما الجواب على النقطة الأولى أن أول من صنع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بهذه الصورة وتلك الطريقة المعروفة هو الملك المظفر العادل التقي أبو سعيد كُوكُبرى مَلِكِ إربل – صهر صلاح الدين – المتوفى٦٣٠هـ (حسن المقصد في عمل المولد للجلال السيوطي)
وهو ملك صالح.. تقي. عالم، قال عنه الذهبي: كان مُحباً للصدقه ويَمُدُّ السِّماط ويخرج للحج يجلس للسماع ويحب العلمآء والفقهاء والمحدثين ويجاهد فى سبيل الله رب العالمين، وكان من الملوك الذين ثبتوا صلاح الدين الأيوبي فى يوم حِطِّين، وما نُقِلَ أنه انهزم فى حرب قط..
صَنَع احتفالاً عظيماً جداً وقصد به التقرب إلى الله تعالى ، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم ، وأرضاه العلامة بن دحية وصنف له من أجله كتاباً؛ وهو أول مَولد صُنِّفَ ، فهؤلاء علماء متدينون رضوه أقروه ولم ينكروه… (سير أعلام النبلاء).
و أمّا عَدم الإحتفال به فى العهد النبوي
فإن أولَ من احتفل به صلى الله عليه وآله وسلم هوَمولاه تبارك وتعالى؛ بما يسميه العلماء الإرهاصات من إخماد نار الفرس وتساقط شُرُفَاتِ كِسرى وإغاطة بحيرة ساوى وفيضانِ وادى سماوى وَمَنعِ الشياطين من استراق السمع وانقضاض الشُهُبِ المُحرِقَةِ عليها… الخ.
واحتفل هو صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بمولده الشريف لا سنوياً ولا شهرياً بل فى أقصر دورة زمنية للأيام وهى الأسبوع، فقد كان يحتفل بِمَولده أسبوعياً.
عن أبي قَتادة الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه: “أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – سُئل عن صوم الإثنين؟ فقال: فيه ولدتُ، وفيه أُنْزِل عليَّ” (مسلم:1162)
قال ابن الحاج المالكي: “وإن كان النبي لم يزد فى ربيع عن غيره من الشهور شيئاً من العبادات؛ فما ذاكَ إلا لرحمته بأمته ورفقه بهم؛ لأنه كان يترك العمل – وهو أَحَبُّ إليه – خشبة أن يفرض على أمته كما وصفه ربه “بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “.
أمّا بالنسبة للصحابة الكرام فهم يحيَون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحيث أنهم لا يحتاجون إلى احتفال يذكرهم به أو يزيد ارتباطهم به صلى الله عليه وآله وسلم فلو غاب رسول الله عنهم طرفة عين لا يَعُدُّونَ أنفسهم من الأحياء بل من المَوتىٰ.
فاحتفال المسلمين اليَوم هو تجديد للإيمان وتنشيط للروح ورَفع للهمة وتزكية للنفس وتقوية الارتباط بالسنة المحمدية وشكر وفرح وسرور بنعمة الإيجاد والميلاد؛ ألا ترى أيها المسلم الكريم أن الكرة الأرضية تحتفل بمولد المسيح عليه السلام – مع تغاير واختلاف وعدم قَطعٍ بيوم مَولده – أفلا نحتفل نحن بميلاد نبينا مع القَطع بيوم وشهر وسنة مَولده…
كلمة الفصل لعلماء الشرع:-
لِيُعلَم أن الحكم بتحليل أمر أو تحريمه إنما هو وظيفة المجتهد كالإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم وعن سائر السلف الصالح،وليس لأي شخص ألّف مؤلفًا صغيرًا أو كبيرًا أن يأخذَ وظيفة الأئمة الكرام من السلف الصالح فيُحلل ويحرّم دون الرجوع إلى كلام الأئمة المجتهدين المشهود لهم بالخيرية من سَلف الأمة وخلَفها، وعليه نذكر هنا نبذة من آراء الفقهاء المعتمدين في هذه المسألة:
- الأحناف:
قال العلامة الملا علي قاري: معقباً على قوله تعالى : “لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ” “هذا إيماء لتعظيم وقت مجيئه…” ثم قال عند تصنيفه لكتابه المَولد الذي أسماه المَورد الرَويَ في مَولد النبي: “وأنا لما عجزت عن الضيافة الصورية كتبت هذه الأوراق لتصير ضيافة معنوية نورية” - المالكية:
قال العلامة ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل وهو يتحدث عن شهر ربيع: يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير شكراً لله تعالى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة…. فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به”. - الشافعية:
قال شيخ القراءات والإقراء شمس الدين ابن الجزري: “من خواص عمل المولد المذكور أنه أمان تام في ذلك العام، وبشرى بتعجيل ما يبتغي ويرام، ولو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان وسرور أهل الإسلام لكفى”. - الحنابلة:
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي باستحباب صيام اليوم الذي ولد فيه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف وقد عقد باباً خاصاً للاحتفال بالحبيب وللحديث عن وظائف شهر ربيع الأول.
بعض الذين أَلَّفو المَولد من علماء الأمَّة الأعلام:-
- الأحناف: الملا علي قاري والعلامة ابن عابدين.
- المالكية: الحافظ ابن دحية صاحب أول مَولد و سيدي أحمد الدردير و سيدي الشيخ صالح الجعفرى.
- الشافعية: شمس الدين ابن الجزري علَّامة القراءات والإقراء و العلامة المُحَدث ابن ناصر الدين الدمشقي و الحافظ شمس الدين السخاوي.
- الحنابلة: القطب الكبير والعلامة الشهير السيد عبدالقادر الجيلاني و ابن الجوزي له مَولده اسمه “العروس” وقد طبع بمصر مرات.
هذا وهناك المئات من الموالد لكبار الأئمة كالإمام العراقي نجم الدين الغيطي، والبرزنجي، وابن الديبع، والإمام الكبيرعبد الغني النابلسي، والمحدث السبكي.
وغيرهم الكثير والكثير مما يصعب استقصائهم رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
الصورة صورها Ikhlasul Amal و تم نشرها بموجب رخصة ال Creative Common
الجامع الجعفرى الدراسة 2021 - كل الحقوق محفوظة