الحمد لله نزل القرآن مائدة للمسلمين في الأرض، ونوره يهدي إلى الرشد، كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأشهد ألا إله إلا الله القائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله العابد القانت القارئ كتاب الله الذي قام الليل إلى أن اشتكت قدماه الضر من ورم، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين تجافت جنوبهم عن المضاجع وهم يتلون القرآن، رهبان الليل وفرسان النهار، فقد كانوا هم الزاهدونا العابدونا
إذ لمولاهـم أجاعوا البطــونا
أسهروا الأعين العليــة حـبا
فانقضى ليلهم وهـم ساهـرونا
شغــلتهم عبـادة الله حــتى
حسب الناس أن فيهـم جنــونا
رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه.
يا جماعة المسـلمين :
إننا في شهر رمضان، وإن كان لرمضان أن يفخر فليفخر بأنه شهر القرآن، بدليل قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر: 1-5).
لما كان هذا الشهر شهر القرآن كانت أيامه أيام القرآن؛ فالقرآن له وهو صاحبه، وهو رينه، تدور الأيام والأعوام ونقف اليوم لنحسب الحساب ونعدد الأعداد لنعلم شيئًا جليلاً جديرًا بالاهتمام والتقـدير.
قفي يا ساعة الزمن لحظة، وقفي أيتها الشمس المتحركة لحظة، وتنبه أيها الإنسان من غفلتك لتسمع، ولتسمع الدنيا بأسرها:
إن الأمة الإسلامية احتفلت بمرور:
14 قرن على نـزول القـرآن.
1400 سنة مرت على نزول القرآن.
16800 شهر مرّ على نزول القرآن.
504000 يوم مرّ على نزول القرآن.
والقرآن هو القرآن؛ لا تغير ولا تحريف، ولا تبديل ولا تصحيف، ولا زيادة ولا نقصان، وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).
وجل من قائل: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
احتفل العالم الإسلام أمس بمرور ربعة عشر قرنًا على نزول القرآن الكريم وهو غض طري لم ينل منه الزمن، ولا يؤثر فيه الدهر لأنه لا يخلق على كثرة الرد.
احتفل العالم الإسلامي أمس؛ وإنها لذكرى طيبة وما أطيبها في رمضان شهر القرآن، ولنقف لحظات لنتدارس جميعًا تبسيط دراسات حول القرآن:
نـــزوله :
أولاً : أول نزول القرآن الكريم هو تجلي الحق- تبارك وتعالى- به على اللوح المحفوظ؛ لينقش فيه ما أراد الله- تعالى- وهو الذكر.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105).
ثم بقاؤه في اللوح المحفوظ. قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 21، 22).
ثانيًا : نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا على أيدي الملائكة الكرام. قال تعالى: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس: 13-16).
ثالثًا : نزوله من بيت العزة منجمًا ومقسمًا ومفرقًا على يد جبريل أمين الوحي- عليه السلام- على قلب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 192-195).
وقد اختار الله تعالى لكلامه المكان والزمان والإنسان، أما المكان قد ابتدأ نزوله في مكة المكرمة: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الشورى: من الآية7).
وأما الزمان فهو شهر رمضان المعظم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: من الآية185).
وأما الإنسان فهو المصطفى- صلى الله عليه وآله وسلم-: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 193-195).
وقد كان القرآن الكريم كتاب هداية، ونبراس عناية، إنه دستور الأمة، ومعجزتها الخالدة التي تبقى على مرّ العصور والدهور.
وقد أمر الله- تعالى- بتلاوته، وجعلها دليلاً على كمال الإيمان: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (البقرة: من الآية121).
وأمر بتدبر آياته: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (صّ:29).
وأمر سبحانه بحسن الاستماع والإصغاء إليه، وجعل ذلك سببًا في نزول الرحمات: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204).
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «اقرأ علىّ القرآن، قال: قلت أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل؟ قال: نعم أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41).
قال- صلى الله عليه وآله وسلم- «حسبك».
فنظرت. فإذا عيناه تذرفان بالدموع» [رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-].
وقد توعد الله من لم يقرأ القرآن بشكوى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- منه يوم القيامة، حين قصّ- سبحانه- مشهدًا من مشاهدها في قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان:30).
أما السعداء فإنهم لا يتركونه لحظة فهم أهله وهو أهلهم؛ بل هم أهل الله تشريفًا وتعظيمًا بسبب القرآن وبركته، قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إن لله أهلين من الناس. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته» والقرآن روح الدين، وسر اليقين:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52).
لهذا. لو نزل هذا القرآن على الجبال لخشعت لأمر الله- تعالى- فأين قلوب القساة من هذا.
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21).
وبعد كل فالقرآن حجة الله- تعالى- لخلقه أو عليهم. قال- صلى الله عليه وآله وسلم-: «القرآن حجة لك أو عليك». فلابد من العمل به وتحكيمه في كل شيء:
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية44).
(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية45).
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية47).
يقول- صلى الله عليه وآله وسلم-: «التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له».
الخطبة الثانية
أيها المسـلمون :
في ذكرى الاحتفال بمرور أربعة عشر قرنًا على نزول القرآن يطيب لنا أن نقول:
الله أكبر إن ديـــن محمـد وكتابه أقوى وأقوم قيــلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنه طلع النهار فأطفئوا القنـديلا
يقول نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم-: «إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، أتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات؛ أما إني لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [رواه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه].
وفي الحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه].
أيها المسلمون :
ألا ما ألصق القرآن برمضان، وما أقوى الصلة بينهما كلاهما عبادة عالية، وقربة راقية، ألا وإن لكل واحد منهما شفاعة مقبولة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: رب منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: يا رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه. قال: فيشفان» [رواه الإمام أحمد والحاكم عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنـه].
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، وذهاب همنا وغمنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.
اللهم عافنا واعف عنا.
الجامع الجعفرى الدراسة 2021 - كل الحقوق محفوظة