فضيلة الإمام الشيخ صالح الجعفري
رضي الله تعالى عنه
هو العارف بالله تعالى فضيلة الشيخ صالح بن محمد صالح بن محمد رفاعي الجعفري الصادقي الحسيني الذي يتصل نسبه العالي بالإمام جعفر الصادق بن سيدنا محمد الباقر بن سيدنا على زين العابدين بن
سيدنا و مولانا الإمام الحسين رضي الله تبارك و تعالى عنهم أجمعين.
و لد مولانا رضي الله تعالى عنه و أرضاه ببلدة “دنقلا” بشمال السودان في اليوم الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة بعد الألف من التاريخ الهجري “1328″ هـ
وقد ولد شيخنا –رضى الله تعالى عنه- ببلدة ” دنقلا ” من السودان الشيق فى الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة 1328 هـ ، وبها حفظ القرآن وأتقنه فى مسجدها العتيق ، ثم وفد إلى مصر ، ليتلقى العلوم بالأزهر الشريف ، واتصل بأهله المقيمين بقرية ” السلمية ” بمركز الأقصر من محافظة قنا، يحدثنا الشيخ -رضى الله تعالى عنه – عن أهله وأجداده الجعافرة فى السلمية ، فيقول عن أسرته : ” من بلدة الأقصر بصعيد مصر ، من القبيلة التى هى من الجعافرة ، وتسمى ” العلوية ” وهم مفرقون بين الأقصر والحلة والحليلة والدير، وقد قل عددهم والبقاء لله، وفى السلمية يوجد قبر جد والدى محمد رفاعى بمقبرة جد الجعافرة السيد الأمير ” حمد ” ، حيث كان يقيم هناك ، وللجعافرة نسب كثيرة محفوظة قديمة، ومن أشهرهم فى إظهار تلك النسب أخيراً : الشريف السيد إسماعيل النقشبندى وتلميذه الشيخ موسى المرعيابى ، ولا تزال ذرياتهم تحتفظ بتلك النسب كثيرة الفروع المباركة”.
وقد أخذ شيخنا – عليه رضوان الله – طريق سيدى أحمد بن إدريس –رضى الله تعالى عنه – عن سيدى محمد الشريف –رضى الله تعالى عنه – ويحدثنا شيخنا الإمام صالح الجعفرى عن ذلك فيقول:
” وقد أجازنى بهذا الطريق شيخى وأستاذى مربى المريدين الشريف السيد محمد عبد العالى، عن والده السيد عبد العالى ، عن شيخه العلامة السيد محمد بن على السنوسى عن شيخه العارف بالله تعالى السيد أحمد إدريس رضى الله تعالى عنه”.
ثم كان حضوره إلى مصر للالتحاق بالأزهر بإشارة من شيخه سيدى محمد عبد العالى –رضى الله تعالى عنه- وعن ذلك يحدثنا شيخنا –رضى الله تعالى عنه- فيقول:
“قبل مجيئى إلى الأزهر جاء أحد أهل البلد بأول جزء من شرح النووى على صحيح مسلم ، فاستعرته منه وصرت أذاكر فيه ، فرأيت سيدى عبد العالى الإدريسى -رضى الله تعالى عنه- جالساً على كرسى ، وبجواره زاد للسفر، وسمعت من يقول: إن السيد يريد السفر إلى مصر ، إلى الأزهر ، فجئت وسلمت عليه ، وقبلت يده ، فقال لى مع حدة : ” العلم يؤخذ من صدور الرجال لا من الكتب ” وكررها، فاستيقظت من منامى ، وقد ألهمنى ربى السفر إلى الأزهر ، وحشرت الشيخ محمد إبراهيم السمالوطى المحدث، وهو يدرس شرح النووى على صحيح مسلم، فجلست عنده ، وسمعته يقرأ حديث ” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإن استنفرتم فانفروا” رواه مسلم.
وقد تلقى الشيخ – رضى الله تعالى عنه- العلم بالأزهر الشريف على يد نخبة من كبار العلماء العاملين ، الذين جمعوا بين الشريعة والحقيقة ، ومنهم الشيخ محمد إبراهيم السمالوطى ، والشيخ محمد بخيت المطيعى ، والشيخ حبيب الله الشنقيطى، العالم المحدث المشهور صاحب ” زاد مسلم ” وغيره من المصنفات المفيدة الذى كان للشيخ معه لقاءات وكرامات ، يحدثنا عنها شيخنا –رضى الله تعالى عنه –فيقول:
ذهبت إلى بيت الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطى ، بجوار القلعة ، ناوياً بقلبى أن أستأذنه فى أن أكون مقرئاً له متن حديث البخارى ومسلم ، فلما وصلت البيت بغرفة الاستقبال ، وهى أول مرة أزوره بها، جاءنى بها مبتسماً ، فلما سلمت عليه وقبلت يده ، وقال لى : أنت الذى – إن شاء الله – ستكون لى سراداً فى هذا العام ، ومعنى سراداً : مقرئاً ، والحمد لله قد لازمته خمس عشرة سنة إلى الممات، ونزلت قبره ، ولحدته بيدى، والحمد لله ، وكنت أقرأ للإخوان الحاضرين درساً قبل حضوره بالمسجد الحسينى، فإذا عارضنى إنسان أو شاغبنى يهمس لى فى أذنى عند جلوسه على الكرسى بقوله: يعاسكونك وأنت خير منهم، كأنه كان معى ، ثم يأتى فى دروسه بكل موضوع قصرت فيه ، وقد حصل ذلك منه مرات كثيرة.
وكان إذا حصل له عذر يرسل تلميذاً أن أقرأ الدرس نيابة عن الشيخ، وفى يوم أرسل لى ورقة مكتوبة بخط يده، فيها: قد وكلتك بقراءة الدرس، فتعجبت من ذلك، لماذا غير الشيخ عادته من المشافهة إلى المكاتبة؟ وما أشعر إلا ومدير المساجد قد حضر وأنا أقرأ الدرس، فسألنى: وهل وكلك الشيخ؟ قلت : نعم ، قال: وأين التوكيل؟ فقدمت له الورقة المرسلة من الشيخ ففرح بها ، ودعا لى بخير، وكانت هذه كرامة منه – رحمه الله تعالى- وغفر له، وأسكنه فسيح الجنان، فإنه كان يحبنى كثيراً ويقول لى: أنت بركة هذا الدرس ، قد أجزتك بجميع إجازاتى ومؤلفاتى.
وكان يقول لى: عليك بشرحى على زاد مسلم فيما اتفق عليه البخارى ومسلم ، فإنى ما تركت فيه شاذة ولا فاذة.
ومن شيوخه الشيخ يوسف الدجوى رحمه الله، الذى يقول عنه شيخنا رضى الله تعالى عنه :
وكان أيضاً من العلماء العارفين ، وقد لازمت درسه بعد صلاة الصبح بالجامع الأزهر الشريف بالرواق العباسى سبع سنين، وكان السيد الحسن الإدريسى إذا جاء من السودان يلقانى فى درسه وبعد الدرس يسلم على الشيخ فيفرح فرحاً عظيماً ، ويقول: السيد أحمد ابن إدريس قطب لا كالأقطاب.
وكان الشيخ الدجوى قد أخذ الطريقة الإدريسية عن شيخى السيد محمد الشريف – رضى الله تعالى عنه- والشيخ الدجوى من هيئة كبار علماء الأزهر، وله مؤلفات نافعة ومقالات قيمة فى مجلة الأزهر الشريف ، وقد حضرت عليه التفسير من سورة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- إلى آخر سورة الناس، قم ابتدأ شرح البخارى بعده، وكان يحفظ القرآن الكريم بالتجويد والقراءات ، ويذكر أقوال المفسرين، ويعرب الآية إعراباً دقيقاً ويبين الألفاظ اللغوية فيها، ويتعرض للأحكام الفقهية على المذاهب ، وكان يقرأ الحديث بالسند ويترجم لرجاله ترجمة طريفة، ويذكر أقوالاً كثيرة قيمة فى أدلة التوسل بالنبى –صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر أكثرها فى مجلة الأزهر المسماة وقتها ” نور الإسلام ” .
وقد كان شيخنا –رضى الله تعالى عنه- يحضر دروس هؤلاء العلماء حضور الواعى المتفهم المحب للعلم وأهله، فكان كثيراً ما يناقش شيوخه ويحاورهم فى أدب جم، وكانوا يعجبون به وبفطنته وقوة حافظته، وحجته فيثنون عليه خيراً ويدعون له بالتوفيق والبركة.
ويذكر لنا شيخنا –رضى الله تعالى عنه – صورة من ذلك مع شيخه الدجوى السالف الذكر، فيقول: ” كان رحمة الله عليه يقرأ حديث سؤال القبر فى صحيح البخارى، وكنت قد ذاكرت شرح الكرمانى على البخارى ، ورأيت فيه أن النبى –صلى الله عليه وآله وسلم- يظهر للمسئول ، فوكزنى فى صدرى وقال لى: أنا ذاكرت شرح الكرمانى واطلعت فيه على هذه المسألة ، لم لم تذكرنى بها فى الدرس حتى يسمعها منى الناس؟”
ومرة كان يتكلم على رؤية النبى –صلى الله عليه وآله وسلم- مناماً فقال: ” وإن الشيطان لا يتمثل به –صلى الله عليه وآله وسلم- إذا جاء فى صورته الأصلية ، والمعتمد أيضاً أنه لا يتمثل به إذا جاء فى غير صورته الأصلية ، فقلت له: روى شيخنا السيد أحمد بن إدريس –رضى الله تعالى عنه – فى كتابه المسمى ” روح السنة ” أنه –صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ” من رآنى فقد رآنى فإنى أظهر فى كل صورة ” ففرح فرحاً عظيماً ، وقال لى: هذا الحديث هو الدليل على أن الشيطان لا يتمثل به –صلى الله عليه وآله وسلم – ولو جاء فى غير صورته الأصلية ، أنت مبارك يا شيخ صالح ، نفع الله بك المسلمين”.
ومن شيوخه الشيخ على الشايب –رحمه الله – الذى حضر عليه الشيخ شرح منظومة الشيخ اللقانى المسماة ” جوهرة التوحيد ” يقول عنه شيخنا:
وكان يدرسها فى أول عام حضرت فيه إلى الأزهر الشريف، وكان يدرسها غيباً متناً وشرحاً، وكان من العلماء الصالحين ، وكان إذا دخل قبة سيدنا الحسين –رضى الله تعالى عنه- يحصل له حال خشوع عجيب، كأنه يشاهده وينزل عليه عرق كثير، وكنت أدرس عليه شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك ، وفى ليلة من الليالى رأيت النبى –صلى الله عليه وآله وسلم- فى النوم وكان يحدثنى فى مسألة علمية أخطأت فيها ، فغضب النبى –صلى الله عليه وآله وسلم- وقال لى: ” يا ولد ” وذلك ضمن كلام يطول، فلما أصبحت وحضرت فى الدرس قلت فى نفسى وأنا جالس : يقول النبى –صلى الله عليه وآله وسلم- : يا ولد ، فهل أنا صغير؟ فالتفت إلىَّ الشيخ – وهو يدرس – وقال: إنما قلنا لك يا ولد كعادة العرب لا لأنك صغير ، وأمثال هذا الشيخ عند الصوفية يسمون أرباب القلوب، ولعلهم أن يكونوا من المحدثين الذين منهم سيدنا عمر –رضى الله تعالى عنه- كما فى حديث البخارى.
ومنهم الشيخ حسن مدكور ، والشيخ عبد الرحمن عليش ، والشيخ محمد أبو القاسم الحجازى ، والشيخ عبد الحى الكتانى، والشيخ أبو الخير الميدانى شيخ علماء سوريا، والشيخ أحمد الشريف الغمارى ، وأخوه الشيخ عبد الله الغمارى ، والشيخ على أدهم المالكى السودانى ، والشيخ حسن المشاط من علماء مكة المكرمة، والشيخ مصطفى صفوت، والشيخ عبد الحليم إبراهيم ، والشيخ أبو يوسف ، والشيخ محمد الحلبى ، والسيد عبد الخالق الشبراوى، والشيخ محمد عطية البقلى ، والشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى المالكى، والشيخ محمد العنانى شيخ السادة المالكية ، والشيخ الدليشنى، والشيخ سلامة العزامى، والشيخ صادق العدوى، والشيخ أحمد وديدى من بلدة رومى بالسودان، والشيخ على محمد إمام وخطيب مسجد دنقلا، والشيخ حسن أفندى، والشيخ على بن عوف، والشيخ أحمد النجار المدرسان بمسجد دنقلا-رحمهم الله – وغيرهم من المشايخ بالأزهر الشريف.
هذه الكوكبة من العلماء العاملين العارفين كان لها عظيم الأثر فى سعة علم الشيخ –رضى الله تعالى عنه – مع ما وهبه الله من ذكاء وقوة حافظة، فأكب الشيخ على دروسه وجاهد وثابر حتى نال الشهادتين العالية والعالمية من الأزهر الشريف ، ثم أصبح صاحب حلقة ومدرساً بالأزهر الشريف.
أما قصة تعيين الشيخ –رضى الله تعالى عنه- مدرساً بالجامع الأزهر الشريف فهى جديرة بأن تروى لما فيها من دليل ساطع على موهبة الشيخ العلمية ، ومحبته للعلم وشيوخه ، يحدثنا عنها الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى فيقول:
ومن مواقف الشيخ التى بلغ التأثير فيها روعته موقفه فى رثاء أستاذه الكبير الشيخ يوسف الدجوى –رضى الله تعالى عنه- فقد كنا طلاباً فى كلية اللغة العربية ، ونادى الناعى معلناً بوفاة الشيخ الكبير ومحدداً ميعاد الجنازة فسارعت إلى توديعه ، وكان المشهد مؤثراً ، تتقدمه جماعة كبار العلماء ، برئاسة أستاذهم الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق (شيخ الأزهر فى ذلك الوقت) وحين بلغ الموكب فيها نهايته عند القبر انتفض الشيخ صالح الجعفرى خطيباً يرثى أستاذه فبدأ مرثيته مستشهداً بقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : ( إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) ثم أفاض فى إيضاح منزلة العالم الفقيد وأشاد ببعض مواقفه الجريئة أمام المبتدعة والملاحدة ، وكان جلال الموقف ورهبة المناسبة واحتشاد الجموع مما جعل نفس الراثى ممتداً يتسع ويتدفق ويجيش ، وكان لصوته الحزين هزة تحرك النفوس وتعصف بالألباب، وما أن انتهى الخطيب من مرثيته حتى سأل عنه الأستاذ الأكبر معجباً ، ثم بادر بتعيينه مدرساً بالجامع الأزهر .
ومنذ ذلك الوقت بدأ الشيخ –رضى الله تعالى عنه- يلقى دروسه بالجامع الأزهر الشريف ، وقد أشربت نفسه حب العلم اقتداءاً برسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يقول شيخنا –رضى الله تعالى عنه :
وكان –صلى الله عليه وآله وسلم- يرشد الناس بالدروس العلمية وبالقرآن العظيم ، وقد تبعه شيخنا السيد أحمد بن إدريس –رضى الله تعالى عنه- فى ذلك فكان يرشد الناس بالقرآن الكريم والعلم، واستمر على ذلك حتى لقى ربه ، وقد سألت الله –تعالى- أن يوفقنى إلى ما كان عليه شيخنا العالم السيد أحمد بن إدريس صاحب العلم النفيس رضى الله تعالى عنه.
أما عن حلقة درس شيخنا الإمام الشيخ صالح الجعفرى –رضى الله تعالى عنه- فإن خير من يحدثنا عنها هو نجله وخليفته سيدى الشيخ عبد الغنى صالح الجعفرى –حفظه الله – فيقول:
وكانت حلقة درسه الشهيرة بعد صلاة الجمعة بالأزهر الشريف جامعة إسلامية صوفية تعمقت فيها أصول الدين والشريعة علماً، وكانت فيها أصول روحانية التصوف تربية، فكانت مظهراً للحقيقة الصوفية، وكان منهجه : أدبنى ربى فأحسن تأديبى ، بما ورثه من هدى نبوى عظيم ، من الدوحة المحمدية الطاهرة نسباً، العظيمة أثراً ، نفخ فيها الإيمان من روحه ، فخلصت خلوص الزهد والورع والتقوى والصلاح، وسطعت سطوع الهدى وصفت صفاء الفطرة ، التى تبلورت فيها محمدية الإسلام الموروثة ، وصوفية الصفاء الموهوبة ، فصار –رضى الله تعالى عنه- لساناً لهادية الخلق، ففى دنيانا فجر للناس من ينابيع الحكمة وكنوز العلم والمعرفة وأسرار القرآن الكريم ، فجاء بالجديد والغريب من التفسير الذى لم يسبقه إليه الأوائل ؛ ذلك لأنه –رضى الله تعالى عنه- لم يكن يملك عقلاً مكتسباً، وإنما كان يملك عقلاً موهوباً ملهماً من الله – عز وجل – مقتدياً برسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- فكان يعطى من كنوز عقله ، ومواهب فكره ، وفيوضات قلبه ، وروحانية روحه ، ومن إنسانية نفسه ، فكان يخاطب الخواطر والضمائر ، ويجيب على تساؤلات العقول ، وهواجس النفس ، فكانت حلقة درسه جامعة إسلامية ، علمية المذهب ، صوفية المشرب ، تربط بين الشريعة والحقيقة ، والظاهر والباطن، والنفس والروح، والعقل والخاطر.
الجامع الجعفرى الدراسة 2021 - كل الحقوق محفوظة