الحمد لله رب العالمين. حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، حمدًا يوافى نعمه ويكافئ مزيد فضله، كما ينبغى لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ووافر آلائه، وسابغ نعمائه.
والصلاة والسلام والبركات على سيد السادات والنور السارى فى الكائنات، وصدق ربنا الكريم إذ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107)، وعلى آله الطاهرين، وصحابته المؤازرين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم يا رب العالمين بجودك يا كريم .. وبعد.
فكلما أهلَّ علينا شهر النور “ربيع الأول” عمَّت أنوار ميلاد نبينا – صلى الله عليه وآله وسلم – القلوب والكائنات، ورنت البهجة وألوان السرور فى الأرض والسماوات، وكل يعبر عن هذه الفرحة بما يسره الله له، فمنهم العابد بالصيام والقيام، وآخر بتلاوة القرآن، وثالث بمديح المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – سيد الأنام، وآخرون يكتبون ويقولون، والجميع بهذه المناسبة مستبشرون، وكلٌّ فى فلكٍ يسبحون، ذلك أن الله – سبحانه – جعل لنا هذا النبى الخاتم نورًا فى الأولى والآخرة، ورحمة للعالمين فى الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأكرم أمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وصدق ربنا – جلَّت حكمته إذ يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110)، فإذا كان الأمر كذلك فالواجب على أهل العلم والإيمان من أمة سيد الأنام أن يُذَكِّروا الناس كلما مرَّ عليهم العام، وجاءت بشارات ميلاده عليه الصلاة والسلام.
ومهما كتب الكاتبون، وتحدث القائلون، وأفاض المتحدثون، فإنهم لم ولن يستطيعوا أن يوفوا نبينا – صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله – حقه أبدًا، ولقد صدق الشيخ العلامة العارف بالله تعالى عبد الغنى بن إسماعيل بن عبد الغنى النابلسى الحنفى الدمشقى النقشبندى إذ يقول:
كل النبيين والرسل الكرام أتوا |
نيابة عنه فى تبليغ دعواه |
ويقول الإمام فخر الدين الرازى المعروف بابن الخطيب:
أنت الذى لولاك ما خُلِقَ امرؤٌ |
كلا .. ولا خُلِقَ الورى لولاكا |
إلى أن قال:
لك معجزاتٌ أعجزت كل الورى |
وفضائلٌ جلَّتْ فليس تحاكا |
ثم يقول:
ماذا يقول المادحون وما عسى |
أن يجمع الكُتَّاب من معناكا |
فهذا النبى المصطفى الحبيب ، رحمة العالمين فى الأولى والآخرة، فلقد أرسله مولاه بشريعة سمحاء، جمعت الخير لأمة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فى الدنيا والآخرة، ومن يقرأ القرآن الذى أنزل على هذا النبى العدنان يرى فيه خيرًا لا حدود له لمن آمن بالله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرًا، وتدبر قوله – تعالى – : (إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر . فصلِّ لربِّكَ وانْحَرْ . إنَّ شانئَكَ هو الأبْتَر)، ففى هذا الكتاب الذى لا ريب فيه تنزيل من حكيم حميد كل شىء كان وما سيكون ، وحكم ما هو كائن إلى يوم الدين، لأنه حكيم عليم، الذى لا يعزب عن علمه شىء فى الأرض ولا فى السماء، وجميع ما سواه خلقه، والأمر فى الملكوت أمره، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(الأعراف: من الآية54)، فبهذا القرآن عرفنا البشرية، وبداية الكون، بما فيه من دلائل العظمة الإلهية، ثم عرفنا منه أحكام التشريعات الإلهية، ليكون الإنسان على بينة من أمره فى معيشته الدنيوية، ومعلوم أن الدنيا مزرعة الآخرة، ففيها عمل بلا حساب، والآخرة حساب ولا عمل، فإما نعيم أبدًا، وإما شقاء محتوم، والعياذ بالله، كما عرفنا من هذا التنزيل نهاية الدنيا وما سيكون عليه الناس قبل يوم القيامة، وقد فصل النبى – صلوات الله وسلامه عليه – بقوله هذا الأمر تفصيلاً نراه واقعًا فى حاتنا المعاصرة، بما لا مزيد عليه من البيان، وذلك دليل على رسالته الخاتمة، ومعجزاته الباهرة، لأنه رسول رب العالمين، ومن هذا المعنى نتدبر الحديث التالى ليكون آية للمتوسمين:
روى البخارى ومسلم بالسند المتصل إلى سيدنا عقبة بن عامر – رضى الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – خرج إلى قتلى أُحُدٍ – وكانت وقعة أحد سنة ثلاث أو أربع من الهجرة – بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: ” إنى بين أيديكم فَرَطٌ وأنا عليكم شهيد، وإنَّ موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه من مقامى هذا وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها” قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفى رواية: ” إنى فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها”.
والمعنى والمفهوم من كلام سيدنا ومولانا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه ودَّع الدنيا بوداع الأموات بالزيارة لهم داعيًا، ثم ودَّع الأحياء بهذه الكلمات الموجزة على المنبر، وهى تدور حول ما ستكون عليه الأمة من الاستقامة على هذا الدين، فلا خوف عليهم من الشرك الذى زال وانتهى بلا عودة، لكن الخوف على الأمة فى كثرة الأموال وغفلة الناس عن واجب هذه النعمة بشكر المنعم، وأداء الحقوق إلى أهلها، خصوصًا وأن المال موجود، بل إنه كثر حتى أنسى الناس ذكر المعطى الوهاب، فتنافسوا فى جمع الأموال واقتتلوا على هذا الحال، حتى هلكوا كما فعل السابقون، فهلكوا بحطام هذه الدنيا، بفتنة الأموال والأولاد كما فى هذه الحكم: (الدنيا إذا حَلَتْ أوْحَلَتْ، وإذا جَلَتْ أوْجَلَتْ، وكم ملك رفع فيها علامات، فلما علا مات).
كما بين النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – أن الله – تعالى – كشف له عن حوضه فهو يراه ببصره الآن وهو يخطب، وهذا إعجاز، ولكن يقرب هذا المعنى ما فى عصرنا اليوم من الآلات التى صنعها الإنسان بنعمة ربه عليه مثل ( التليفزيون) الذى قرب البعيد وأتى بالماضى السحيق، فيراه المرء رأى العين.
وقد بين المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – أيضًا أن مفاتيح خزائن الأرض أى النعم كلها فى جنبات الأرض فى يد النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – لأنه حبيب الله ومصطفاه، كما قال الإمام البوصيرى :
وراودته الجبال الشم من ذهبٍ |
عن نفسه فأراها أيَّما شمم |
فمن يقرأ هذه الأحاديث النبوية التى جاءت بطريق الوحى على أسماع هذا الزمان يؤكد أن نبينا – صلى الله عليه وآله وسلم – رحمة للعالمين ونور لمن اهتدى إلى يوم الدين ، فى جميع أرجاء الأرضين.
فمن قال بعد ذلك بالشركيات التى يتفوه بها المتعالمون ويتشدق بها أنصاف المثقفين، فلا أساس لقوله فى عالم الدين، بعدما قال هذا سيد العالمين: ” وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى” فلماذا رَمْىُ المسلمين بهذا الشرك الذى نفاه رسولنا – صلى الله عليه وآله وسلم – عن أمته ولمصلحة من هذا الكلام؟ إنَّ هذا لهو الإفك المبين، فيا ليت قومى يعلمون.
لكن ما الذى يخافه علينا رسولنا – صلوات الله وسلامه عليه -؟
إنها الدنيا .. التى أقبلت علينا بزهرتها، وتفتحت كنوز الأرض على أهلها، وصارت الأموال بالملايين والمليارات فى أيدى حفنة من الناس يغلبون بها مع ضعف الإيمان بالرزاق ذى القوة المتين، أليس هذا هو ما نراه الآن؟ أو ليس المال قد غلب على الناس كلهم؟ لقد صارت الموازين فى كل الأمور بالأموال والأولاد، والأصحاب، والعلاقات، أما ترون الشباب فى هذه الأيام وقد صار همهم المال للنزوات والشهوات؟ إنك تراهم فى الشوارع يهيمون، وعلى مجالس الشياطين يتهافتون، وفى نواديهم يلهون ويلعبون، إذا رأيتهم خلت الشياطين، وإذا سمعتهم رأيت صورهم كريهة وهم يتكلمون، ولا ينطقون إلا بساقط العبارات، وبذىء الكلمات، ويتضاحكون وهم يتحدثون، إذا رآهم التقى انخلع قلبه، وسد أذنيه، وأسرع الخطو ليبعد عنهم، واستغفر ربه من لقائهم، ودعا الله الكريم لهم بالمغفرة، والهدى، وأن يغير ما بهم بصلاح أحوالهم، إنه خالقهم وهو القادر على إصلاحهم، وفى وصفهم بأحوالهم كلام يطول.
وفى ختام هذه الكلمات الموجزة أنادى على أبناء هذا الزمان قائلاً: يا أمة رسول الأنام، ومصباح الظلام أفيقوا من غفلتكم، وراجعوا بعقولكم حياتكم، واتقوا الله فى أقوالكم وأعمالكم، وانظروا فى قلوبكم، فان الحياة أيام معدودة، وساعات محدودة، ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(الأعراف: من الآية34)، ثم يرى المرء نفسه أمام العليم الخبير الذى لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، ويحاسب كل نفس بما قدمت، فإما إلى نعيم أبدى، أو إلى عذاب سرمدى، فالرجعة الرجعة أيها الأحباب، والتوبة والعودة إلى رب الأرباب، فإن الله يقبل التوابين ويحبهم، ويفرح بمن لاذ به وأناب ، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والحمد لله رب العالمين.
الجامع الجعفرى الدراسة 2021 - كل الحقوق محفوظة